الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآيات (60- 63): القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [60- 63].{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إضراب وانتقال، من التبكيت تعريضاً، إلى التصريح به خطاباً على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي: بل من خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي: بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أَإِله آخر كائن مع الله، الذي ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى، في ضمن النفي الكليّ على الطريقة البرهانية، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: عن طريق الحق. أو به تعالى غيره {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} أي: قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقراً لمن عليها، يتمتعون بمنافعها: {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} أي: برزخاً مانعاً من الممازجة: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: في الوجود، أو في إبداع هذه البدائع: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: شيئاً من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك، مع كمال ظهوره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى، اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي: الالتجاء والاستناد.قال ابن كثير: ينبّه تعالى أنه المدعوّ عند الشدائد، الموجود عن النوازل، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، وهكذا قال هاهنا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}، أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.وقال ابن القيم في الجواب الكافي: إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف انكساراً بين يدي الرب وذلاًّ له وتضرعاً ورقة، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً. ولاسيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ثم ساقها ابن القيم مسندة.ثم قال: وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده، كاف في حصول المطلوب، كان غالطاً. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.وقوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي: كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي: خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكانها، والتصرف فيها قرناً بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشري {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وهي المطر: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}..تفسير الآيات (64- 65): القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [64- 65].{أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: بعد الموت بالبعث. فإن قيل: هم منكرون للإعادة، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها، جعلوا كأنهم معترفون بها، لتمكنهم من معرفتها- فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها، فالكلام بالنسبة إليه: {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي: مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت. أي: هاتوا برهاناً عقلياً أو نقلياً، يدل على أن معه تعالى إَلَهَاً. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى، فإنهم لا يدعونه صريحاً. وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهاناً. وأَنَّى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} أي: فإنه المتفرد بذلك وحده، كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، في آيات لا تحصى. والاستثناء منقطع، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض، أو متصل، على أن المراد ممن في السماوات والأرض، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازاً مرسلاً أو استعارة. فإنه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: متى ينشرون..تفسير الآية رقم (66): القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [66].{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} قال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أن في على بابها، وادّارك وإن كان ماضياً لفظاً، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعاً. كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].وعلى هذا ففي متعلق بادّارك.والثاني: أن في بمعنى الباء. أي: بالآخرة.وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك: علمي بزيد كذا، انتهى.والوجه الثاني على الاستفهام. أي: بل هل ادّارك علمهم فيها، أي: بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ: {بل أءدرك} بهمزتين، {بل آءدرك} بألف بينهما، {أم أدرك} و{أم تدارك}.قال الرازيّ: وهي أم التي بمعنى بل والهمزة. فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطيّ والمهايميّ. وذهب غيرهما إلى إبقاء بل على أصلها من الإضراب الانتقاليّ. وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} أي: مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} أي: في عماية وجهل كبير.قال الزمخشريّ: فإن قلت: هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها؟قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وَصَفَهُمْ أَولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالاً، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يُخْطِر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه بمن دون عن لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى..تفسير الآيات (67- 70): القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [67- 70].{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} أي: من القبور: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي: في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك من الناس..تفسير الآيات (71- 76): القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [71- 76].{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي: بالعذاب: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} أي: لحقكم أو دنا لكم: {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: من العذاب، فحصل لهم القتل ببدر. ولعاب الآخرة أمرّ. قال الزمخشريّ: وعسى ولعلّ وسوف في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده. وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم، ووثوقهم أن عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم. فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي: لأن حقيقة الترجّي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله الشهاب: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} أي: لذو إفضال وإنعام عليهم، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلونها: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: وما من خافية فيهما، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البيّن، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل، على طريق الاستعارة، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع، كالسجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعوّل من أنبائهم عليه، ومردّ ما اختلفوا فيه إليه..تفسير الآيات (77- 81): القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [77- 81].{وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق، المذعنون له: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} أي: بين مَنْ آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: فلا يردّ قضاؤه الغالب في انتقامه من المبطلين: {الْعَلِيمُ} أي: بالفصل بينهم وبين المحقّين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه، وبالمضيّ في دعوته وانتظار الوعد الحق، بقوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي: الأبلج الذي لا ريب فيه.قال الزمخشريّ: وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين، الذين هم أولياؤه وحزبه، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية، كآية: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، تسلية عما كان يهمه من إيمانهم، بقوله سبحانه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} قال الزمخشريّ: شبِّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم، لانتفاء جدوى السماع، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء، إلا الله عزّ وجلّ.فإن قلت: ما معنى قوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}؟قلت: هو تأكيد لحال الأصمّ. لأنه إذا تباعد عن الداعي، بأن يولّي عنه مدبراً، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.وإيراد قوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} إثر ما تقدم، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} أي: ما تسمع سماعاً يجدي السامع نفعاً، إلّا من شأنه الإيمان بها {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تعليل لإيمانهم بها. كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق. وقيل: معناه مخلصون، من قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، يعني جعله سالماً لله خالصاً له.
|